كما تعرف الزهور بتعدد ألوانها ، وأنواعها ، ومواطن نموها .. نعرف نحن معشر البشر بتعدد أصولنا ، وألواننا ، ومواطننا .. ومع معانقة نور الشمس لصفحة السماء رسمنا خطانا في الزقاق والطرقات ، شق ضجيج صدى أقدام الناس إسفلت الشوارع ، منهم من يمشي ومنهم من سابقت أقدامه الرياح ومنهم من تجره العربات ، أبيض .. متوسط .. أو حتى زنجي كلنا عبرنا تلك الأزقة ملبين النداء ، طويل .. قصير .. أو حتى من أبتلي بالنقص لعلة معينة كلنا ارتدينا نفس الأثواب من الصلاح والنبل والكرم .. أجل .. كلنا حملنا نفس الرسالة
كم طربت أذناي لسماع تلك اللهجات والأصوات واللغات ، تماماً كحمامات الصباح التي أعتدت رؤيتهم يرمونها بالقمح المتجانس بالأرز كنّا نتطاير وأصوات هديرها معلنة ابتداء يوم جديد من العطاء اللامنتهي ، كم تمنيت وقتها لو أن شبّاكاً يفتح على قلبي لأطلب إليهم إمساكه عن الإرتجاف خوفاً وخشيةً ورهبةً .. إعجاباً وحباً ، متمنية لو أنثر الحب والخير والسعادة التي اجتاحته على كل الخلائق
نعم .. تلك هي اللحظات التي تمنيت فيها لو أنني واحدة من حبات قمح ترمى بالحقول في المواسم لتحمل خياراً بالموت أو الحياة ، وفي النهاية لتعطي سنابل في كل سنبلة حباً سيعطي أكله بعد حين
وبقي سؤالي متردداً : هل ضياع حبة القمح سيترك ذلك الأثر في المحصول ؟؟ .. ربما نعم ربما لا
كم استمتعت حقاً لسماع ذلك الوهج من حولي ، تلك الأماني المتصاعدة والأحلام المقذوفة الى السماء والأكف تعانق مستوى العيون متضامنة مع قلوب وصل خفقانها الحناجر ، ولكن ابتساماتي المتسابقة مع هطول القطرات المستسلمة كانت أكثر تعبيراً من أي كلام .. حتى لو أن هناك وزناً لعمود الهواء فوق رؤوسنا لما أحسست فيه حقاً إلا عند تلك اللحظات
وبما أن كل حبة قمح هي فريدة رغم تعدد ألوان وأحجام وأشكال القمح في ذلك الكوم إلا أن أجمل ما قد تراه عيوننا هو اصطفاف الأجساد وتعانق الأكتاف عند المواقيت ، فتحس بأنها سمفونية لا يدركها الاّ من أطلق العنان لمحاكاة تلك المعطيات
نعم ... تلك هي لحظاتي الأولى عند رؤيتي إليك كعبتي
وتضيء جوانب عقولنا المنسيّة وأفكار لم تخطر من قبل في البال ويتجدد الأمل كأزهار نيسان بأن الغد سيحمل تحقيقاً لآمالنا وأمنياتنا ، لحظات كثيرة تقاذفتنا فيها أمواج الحياة وجدنا أنفسنا من خلالها عند مفترق للطرق متعدد الوجوه وكأننا في لعبة تتكون من خصمين ننتظم فريقين في مواجهة كل منهما الآخر "نهاجم وندافع" ونحاول توقع الحركة المقبلة لنرد عليها ، نطلق على مسميات الخسارة أو الفوز تبعاً لما بذلناه من جهد في ضرب التوقعات "حظوظ" ، ونعلم أن الممارسة وبذل أقصى درجات العطاء لا تعطي النتائج المتوقعة دائماً
غريبةٌ هي حياتنا فمهما ابتعدت أو اقتربت خطوطنا ، مهما استدعينا أعلى قدراتنا أو خططنا ملياً للفوز بالخطوة القادمة تبقى الحكمة أكبر من أن تعطي تفسيرات واضحة لما هي عليها الأمور ، تناظر عيوننا عش الغد المأمول بالأفضل وكلنا ينتظر الخطوة التالية ، لأننا ببساطة نعتقد أن العشب على الجهة المقابلة لحديقتنا سيكون أكثر خضرة وإشعاعاً ، نتصنّع الرضى والحب والشجاعة لمواجهة المجهول ، ولكننا حقيقة نراهن على أكثر مما تحتمله توقعاتنا ، ولولا إيمانٌ يعانق قلوبنا وحبٌ يعكس صدى يتردد في أرجاء حياتنا يلونها ويزهيها ويسعدها أو حتى يشقيها يضيف النكهة ولو بالمرارة تزكيها ، فترانا كجموع حافلة تتعانق أيديها وكزهرة لوتس تشرئب عندما تصافح الماء
ولأن الأفضل ليس بما نحن عليه إنما بما سنكون عليه عندما نصل للجهة المقابلة
يفقدنا التطلع للخطوة التالية نكهة عيش اللحظة ، لحظة النصر بحد ذاتها ، ولكننا عندما نمضي قدماً ونتوقف دقيقة للتطلع للوراء ، تجدنا لم نخسر الخطوات التي خططنا لها طويلاً بغض النظر عمن حالفها الحظ أم من حملت لنا عدم الرضى عنها .. فعلياً فقدنا لحظات كثيرة في الطريق وحتى عندما وصلنا فقدنا لحظة الرقص على قمة الجبل قبل النظر للقمة التالية ، أو حتى مقارنة العشب في الجهة المقابلة
هل كان فعلاً اكثر خضرة مما كان عليه في حديقتنا!!!؟